إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إثبات أن النبي صلى الله عليه وسلم سُحِر
ثم أما بعد: فما زلنا مع هذا الكتاب العظيم شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، وتوقفنا فيه عند الكلام على السحر، وفرقنا بين السحر وبين المعجزة وبين الكرامة، وأثبتنا أن السحر نوعان، وبينا هذين النوعين.
ونتكلم اليوم عن مسألة مهمة قد أنكرها كثير من أهل البدع، وردوا الأحاديث الصحيحة فيها، وهي مسألة أن النبي صلى الله عليه وسلم، سُحِر، فهل معهم حجة في ذلك أم لا؟
أقول: قد سُحر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه دلالة على بشرية النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أثبت الله أن للسحر تأثيراً، وأن هذا التأثير لا يكون إلا بإذن الله جل وعلا، قال الله تعالى: وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:102]، فأفاد هذا النص الكريم أن السحر يضر، وأن السحر يؤثر، وقد بينا أن السحر يؤثر في الظاهر وفي الجوارح، فيمكن أن يؤثر على القلوب بالهم والغم ويؤثر على العقول، لكن مع ذلك فإنه لا يقلب الحقائق.
وقد ثبت خبر سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم في البخاري و مسلم عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: (سحر النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان يخيل إليه أنه يأتي أهله وما يأتي أهله.
وفي رواية: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (استفتيت ربي فأفتاني، وجاءه ملكان ملك عند رأسه وملك عند رجله فقال أحدهما: ما بال الرجل؟ قال الآخر: مطبوب، قال: من طبه؟ -يعني: من سحره؟- قال: لبيد بن الأعصم) ثم استخرج السحر من المكان الذي وضع فيه وشفي النبي صلى الله عليه وسلم.
ولم ينتصر النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه من لبيد لحكمة بيناها فيما مضى.
والمقصود: أنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر، وثبت أنه كان يخيل إليه أنه يأتي أهله وما يأتيهم، وقد ثبت هذا بالنص الصريح، والشرع من الله جل وعلا والوحي قال تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].
الحكمة من وقوع السحر في النبي عليه الصلاة والسلام
والله عز وجل لا يصنع شيئاً إلا وله حكم بليغة في هذا الصنيع، والله حكيم عليم، ومن دقق النظر في خبر سحر النبي صلى الله عليه وسلم ظهرت له وحكم بليغة جداً منها:
ما وقع من سحر النبي صلى الله عليه وسلم دليل على بشريته:
أولاً: الرد القاطع على أهل التصوف الغالين في رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث يثبت الله جل وعلا للناس أن النبي صلى الله عليه وسلم ما هو إلا بشر مثلكم، ومن جلدتكم، ومن بني آدم، يتأثر بما تتأثرون به، ويأكل ويشرب ويمشي في الأسواق، ويأتي أهله، ويمرض، بل إنه يسحر كما تسحرون، وهذا رد قاطع على المتصوفة الذين يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم فوق طبقة البشر، وإنما خلق من نور ولم يخلق من ماء وطين! فمن رحمة الله للعالمين أنه أرسل إليهم رسولاً منهم يدعوهم إلى الله جل وعلا.
فأول هذه الحكم تقطع الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم -ليحسم مادة الشرك وليحافظ على التوحيد-: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله)، إذ إن الذين غلوا في عيسى ما قالوا: إنه خلق من ماء وطين، بل قالوا: هو مشتق من الأقانيم الثلاثة، التي هي نور من الله جل وعلا، ونسبوا عيسى لله جل وعلا.
وأهل التصوف شابهوا فعلهم هذا فقالوا: محمد لم يخلق من ماء وطين بل خلق من نور، ثم ارتقوا بعد ذلك إلى أن وسموه بالربوبية والإلهية، كما قال البوصيري في البردة: وإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم فما ترك لله شيئاً، فالدنيا والآخرة من وجود النبي صلى الله عليه وسلم، وعلم اللوح والقلم من علم النبي صلى الله عليه وسلم، فأين الله؟! ولذلك تعقب ابن رجب صاحب البردة فقال: هذا الرجل جن في عقله، فما ترك لله جل وعلا شيئاً، وإنما جعل كل شيء للنبي صلى الله عليه وسلم.
فمن الحكم البليغة فيه إظهار بشرية النبي صلى الله عليه وسلم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأثر كما يتأثر البشر، ويمرض كما يمرض البشر، وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وكان مريضاً يتألم ويتوجع، فقلت: يا رسول الله! إني أراك توعك وعكاً شديداً، فقال: نعم.
إني أوعك مثلما يوعك الرجلان منكم، قلت: ذلك أن لك أجرين؟ قال: نعم).
والشاهد في هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم يوعك كما يوعك البشر، بل إنه صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته في أحد وكاد يقتل صلوات ربي وسلامه عليه لولا أن الله جل وعلا أنزل في كتابه أمراً مقضياً: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67].
فالله جل وعلا مكّن ليهودي كافر حاقد حاسد من إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم لبشريته صلى الله عليه وسلم.
ما وقع من سحر النبي صلى الله عليه وسلم فيه تشريع للبشر من بعده:
ثانياً: في خبر سحر النبي صلى الله عليه وسلم تشريع للبشر، فالنبي صلى الله عليه وسلم بعدما شفي من السحر قال: (استفتيت ربي فأفتاني فجاء الملكان) أي: بعدما أخرج السحر الذي عمل لرسول الله صلى الله عليه وسلم من البئر شفاه الله، لكنه لم يقتل لبيداً مع أن حد الساحر أن يضرب بالسيف، ويقتل إما ردة وإما حداً على التفصيل السابق، فلم يفعل رسول الله ذلك تشريعاً للأمة، وليبين أن المسألة وإن كان فيها أمر وإن كان فيها شرع، فالمرء يمكن أن يمتنع عن تطبيقه لعلة ولحكمة أبلغ.
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل لبيداً حتى لا تتألب عليه الأمم، وحتى لا يقول اليهود: إن محمداً يقتل الناس بغير حق ولا إثبات، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل لبيداً لهذا المقصد العظيم.
وقد ثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عطل بعض الحدود لعلل وحكم مقاصد، ففي عام الرمادة كان الناس يقتتلون على الطعام ولا طعام لهم ويمكن أن يسرق بعضهم من بيت مال المسلمين نفسه؛ ومع هذا لم تقم الحدود؛ لأن هذه شبه تدرأ بها الحدود.
ما وقع من سحر النبي صلى الله عليه وسلم فيه بلاء واختبار لصدق أهل الإيمان:
ثالثاً: في سحر النبي صلى الله عليه وسلم بلاء واختبار وتمحيص لإظهار أهل الدين، هل يصدقون ربهم أم لا؟ وقلوبهم هل استقر فيها الإيمان بحق أم لا؟ إذ إن الله جل وعلا يختبر القلوب، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119]، والله جل وعلا ليختبر صدق المرء ينزل عليه البلايا والفتن تترى: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122].
إن مما يتلى على الناس ليل نهار، قول الله تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4]، فعندما يسحر النبي صلى الله عليه وسلم تفتتن القلوب كما حدث للأغرار الأغمار من المعتزلة وأهل البدعة والذين ينفخون في أبواق المعتزلة في هذه العصور، يفتتنون بذلك ويقول قائلهم: رسول معصوم كيف يسحر؟ فنجيبهم: هو عبد لله جل وعلا ويسحر، فيفتن الله جل وعلا الناس ليغربلهم.
ولذلك قال الله تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء:35] فهو فتنة، لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [الأنفال:37]، فيرتقي الطيب عنده وينزل الخبيث في صفوف المنافقين في الدرك الأسفل من النار.
فالثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سحر،
وهذه بعض الحكم التي أدركناها.
وما خفي كان أعظم وأعظم وأعظم،
إذ إن حكم الله لا يكون لها عد،
ولكل شيء فعله الله حكمة بليغة،
لكن يوصل الله لها من يشاء من عباده.